تقرير


اسراء الشاهر

أستَغرِب من الإحصائيات رغم أنني أكتبها ، أو قد كتبتها كثيراً والتي تُشير إلى عدد الذين سقطوا متأثرين بجراحهم، أحزانهم ورغباتهم في الحُرّية والسلام والعدالة، فسقوط شهيدٍ واحدٍ أو إراقة دم جسدٍ واحد جريمة لا تحتاج إلى التهويل والصراخ وإذاعة الأخبار التي تقول أن هنالك مئة أو ألف شخص سقطوا موتى!
فالعدد لن يجعلنا ننتحب ونزيد من دموعنا وحدادنا، جثة واحدة كفيلة بأن تجعلنا بائسين، في زمن أصبحت فيه الرصاصة كقلم الرصاص تخرج دونما خجل مثلما يحمل الطفل أقلامه في حقيبته ويخرجها دون خجل، لكنها أقلام ملونة ورصاصة الغدر لا لون لها ولا رهبة، حتى لو تشظّت وتفرقت في جسد مليون شهيد.
جاء إذن الزمن الذي أصبح فيه الإنسان رغم غلاء أعضائه يُباع القلب في السوق السوداء بمليون دولار صار الإنسان أرخص من ثمن الرصاصة، إذا كان القاتل شخص مُتزن الداخل لكان جسد البني آدم عنده أغلى من صفقات المليار دولار والتي يدفعها أصحاب الجيوب الممتلئة والبطون المنتفخة لشراء أوطاننا.
يوم خرجوا هولاء الشباب يهتفون بهتاف الحرية كانوا يعلمون عدد الرصاص الذي سيُطلق وللأسف يعلمون مُطلِقه، وسبب إطلاقه، ويعلمون أنهم سيُقتلون بدمٍ باردٍ، ومع ذلك كانت الكرامة عندهم أكبر من كل شئ، لابد أن يدفع ضريبة الحرية ملايين الأشخاص، أحدهم يدفعها بتشرده وآخر بجوعه، وآخرون بإستشهادهم، والبعض بالإغتصاب والضرب والتنكيل.
يوم صارت الرصاصة تقتل الحي لا الميت بها، تغيرت الأقدار، فأن ترتقي شهيداً إثر إصابتك برصاصة ليس أكثر ألما من أن تكون هارباً طوال حياتك من الرصاص، ربما كان الموت أكثر أريحية من الحياة الغامضة التي تطوِّق أعناق مدينتنا التي اعتادت سماع الرصاص، رأس سنة يجئ وآخر يذهب ونحن نرمي بعضنا البعض بالبيض والماء البارد احتفالاً، رغم أن هنالك الآلاف البطون لم تتذوق طعم البيض ولم تشرب ماءً بارداً طيلة حياتها، ولابد أن أذكر الخبر الصادم الذي سمعته في نشرة الأخبار والذي يقول (ثلاثة أطفال يموتون كل ثانية حول العالم بسبب الجوع)!!! هذه فضيحة يجب أن يخجل منتجو الأخبار منها فالبشر بطبعهم يخجلون من فضائحهم، كيف يموت هذا العدد الهائل من الأطفال على رأس كل ثانية دون أن يكف العالم عن كتابة النكات ونشرها ودون أن تغلق دور السينما أبوابها ودون أن نعلن الحداد الأبدي على أرواح هؤلاء؟
قبل سنوات كانت دارفور تنتحب ونحن نُقيم الأعراس والليالي الشعرية والأمسيات الفنية ، كل تلك الأفعال ليس لأننا نُكابر ونرقص على دماء دارفور الحبيبة، بل لأن الإعلام كان يحجب عنا حجم المأساة، وعندما سقط مئة شهيد في الخرطوم انتصبت في عيني صورة الثلاثمائة ألف شهيد الذين سقطوا في دارفور، يالتفاهة مصابنا أمام مصاب دارفور، ولكن عندما خرجت الجموع تهتف”كل البلد دارفور” قلتُ في نفسي أخيراً التئم الجرح وأصبح السودان بحجم أمنياتنا.